[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] الاربعين يوما مرّت دهرا من الزمن في غياب عميد " النهار" غسان تويني. شدّة وطأة الفقدان والاشتياق تجعل الأيام أعواماً. العائلة، افراد "النهار"، زملاء، وأحبة شاركوا امس في القداس والجناز على نيته في كنيسة مار متر في الاشرفية
الخشوع سكن المكان. رفعت الصلاة وسمعت الترانيم تترّدد في الارجاء. كان الايمان هو الاقوى في قلوب المصلّين، فكادت الصلوات تسمع صوتاً واحداً نابعاً من القلوب، والرجاء يلوح في أعين المؤمنين، وهم يترّحمون على اموات
اعزاء، سرقتهم يد الغدر، فتكسرّت القلوب من بعدهم
وقف أفراد عائلة تويني يتحضرّون للصلاة، وتقدّمهم النائبة نايلة تويني وزوجها مالك مكتبي والآنسة ميشيل تويني والسيدة سهام تويني، وشقيقا عميد "النهار" وليد وسامي وعائلتاهما والنائب مروان حماده والوزير السابق وديع الخازن. وخلفهم غصت الكنيسة بعائلة "النهار" وزملاء وأصدقاء
لم يكن ثمة رسميون كثر ولا حشد للتغطية الاعلامية، فالدعوة في الاساس من القلب، ممن "اقترن" بغسان تويني الى من احبه، وزادت اللحظة خشوعاً عظة متروبوليت بيروت للروم الارثوذكس المطران الياس عوده الذي ترأس القداس وآثر التحدث عن "غسان تويني الانساني"، او عن الياس كما هو إسمه في المعمودية، فقال: "لأنه كان مؤمناً جرّب مرات كثيرة. غسان انتقل عنا لكنه لم يفارقنا
هو لم يفارق المصلّين في الكنيسة، فكان كل واحد يتذكرّه في شريط من الذكريات أو الأخبار
وفي جانب الحضور، شارك وزير الاعلام وليد الداعوق والنواب عمار حوري ممثلاً الرئيس سعد الحريري، وغسان مخيبر وفؤاد السعد، والوزيران السابقان ميشال اده وطارق متري والنائبة السابقة نايلة معوض ورئيس أساققة بيروت للموارنة المطران بولس مطر (غادر بسبب اضطراره إلى حضور اجتماع بكركي) ونقيبا الصحافة محمد بعلبكي والمحررين الياس عون ومستشار الرئيس سعد الحريري الدكتور داود الصايغ والدكتور فيليب سالم والمخرج فيليب عرقتنجي والاعلامية مي شدياق والسيدة ميرنا المر ابو شرف وزوجها بيار ابو شرف ورئيس بلدية الشياح ادمون غاريوس وعقيلته والسيدة ميرنا البستاني والسيدة روز شويري والزميل رفيق شلالا وفيليب سكاف ومسعود الاشقر والفنان سامي خياط وعدد من الشخصيات والزملاء
المطران عوده
وقال عودة في عظته: "أيها الأحبة، نلتقي اليومَ لكي نتّحدَ بأحبائنا في جسد الرب ودمه، ولكي نرفعَ الصلاةَ من أجلهم، وبخاصة من أجل غسان الحبيب على قلوبنا جميعاً، وأنا متأكدٌ أنه الآن، يرمقنا من فوق، حيث هو، في حضرة الرب الإله، محاطاً بأحبته الذين لم يفارقوه يوماً، بل مع رحيل كل واحد منهم انسلّتْ قطعةٌ من فؤاده ترافقه
لقد كُتب الكثيرُ عن غسان وقيل الكثير، لكنّ الكلمات، مهما حملت من معانٍ عميقة، وأفكارٍ بليغة، لن تفي هذا الكبيرَ حقَه. لذلك لن أتحدث اليوم عن الصحافي الذي كان يصنع الحَدَث، ولا عن الكاتب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ولا عن النائب الذي وطِئت قدماه البرلمان شاباً يافعاً ولمرات، ليعودَ إلى البرلمان إياه كهلاً، يخلِفُ فلذةَ كبده بغصةٍ وحرقة، فقط ليتابعَ الرسالة. ولن أتكلّمَ على الوزيرِ المشاغبِ من أجل البناء، الذي ترك بصماتِه حيث حلَّ، ولا على الديبلوماسي الرفيع الذي كان رسولاً كبيراً لبلدٍ صغير، في زمن عانى لبنان صغائر الأمور وصَغارات النفوس، فلم يجد إلاَّ الكبير غسان، المترفع عن كل حقد وضغينة ومصلحة، المتسلّح بالثقافة والكفاءة والإيمان بوطنه وكرامة إنسانه، ليحملَ لواءه إلى الأمم المتحدة، مدافعاً عنه ومطالباً بحقه بالعيش حراً كريماً. وكيف لنا أن ننسى صرخته آنذاك: أتركوا شعبي يعيش. بل سأتكلّم على غسان الإنسان الذي انطوت مع رحيله حقبةٌ من تاريخنا المعاصر، ويكاد يغيب معه زمنُ الرجالات
غسان، واسمه في المعمودية الياس، كان كشفيعه حاراً بإيمانه، هادراً بغيرته على كنيسته وعلى مجتمعه والوطن. مَن يعرف غسان يعرف حتماً أنه كان يعيش مع القديسين الذين تُزيّن أيقوناتُهم جدرانَ منزله ومكتبه، وجدرانَ الكاتدرائية التي أحب، ويعرف أنه كان ابناً باراً للكنيسة، يقصدها للصلاة والإختلاء بالنفس واستلهام الروح
غسان كان شاهداً للحق مهما غلا الثمن، وباحثاً دائماً عن الحقيقة. قاوم الفساد والظلم والإستبداد منذ مقتبل العمر، حملَ آلامَ شعبه وناضل من أجل كرامته وحريته، كما حلم بدولة قوية ديموقراطية عادلة
كان إنساناً حساساً إلى أبعد الحدود، محاوراً لبقاً، مثقفاً موسوعياً، مولعاً بالفنون، طليعياً، متمرّداً، مفكراً متميِّزاً جريئاً، كما كان عاشقاً للحرية، ديموقراطياً، خلوقاً، كريماً، شجاعاً ومتواضعاً. وكان قبل كل هذه صادقاً مع نفسه ومع الآخرين. لم يعرف غسان الممالقةَ ومحاباةَ الوجوه. لم يعرف النفاقَ ولا التلوّنَ أو الإستزلامَ والتبعية. قُمِعَ لكنه لم يطأطئ الرأسَ أو يستسلم، لأنه كان مؤمناً بما يقول ويفعل. كرامةُ الإنسان وحريتُه كانت عنده أولوية لأنه كان إنساناً مؤمناً وحراً
ولأنه كان مؤمناً جُرّب مرات كثيرة لكنه في كل مرّة، وكمثل أيوب، «لم يُخطئ بكلمة من شفتيه» (أيوب 2: 10) «ولا عَتِبَ على الله» (أيوب 1: 22). وبلسان أيوب كان يقول: «اللهُ حكيمُ القلب جبّارٌ. مَن الذي يعانِدُه ويَسْلَم؟ يُزحزحُ الجبالَ فلا تستقر، يَقلِبُها في ساعة الغضب. يزلزلُ الأرضَ من مكانِها فتتزعزعُ جميعُ أعمدتِها. يأمرُ الشمس فلا تُشرقُ ويختُمُ على النجوم فتُظلم. مَن بسطَ السمواتِ غيرُه، ويدوسُ أمواجَ البحر... عظائمُه فوقَ حدِّ الإدراك وعجائبُه تفوقُ العدّ»أيوب 9: 4-10
إيمانه كان عظيماً رغم عِظَمِ النوائب التي ألمّتْ به وأرهقتْ كاهله. وشعوري العميق أنّ غسان لم يمت في السابع من حزيران من هذا العام، بل في الثاني عشر من كانون الأول من سنة 2005، عندما امتدت يدُ الغدر لتسلبَ منه آخر مَن تبقى له من أفراد عائلته، بطريقة همجية أدمت القلوب. عندها ذوى غسان وتعب وقد يكون رمى سلاحَ المواجهة. صحيحٌ أنه بقي حاضراً بيننا، لكنّ قلبَ هذا العملاق، قلبَ هذا الرجل الأسطوري، وإن كبيراً، لم يبقَ منه الكثير لأنه تفتت حزناً وألماً، وقد يكون سئم الإنتظار واشتاق الى لقيا الأحبة، لكنه تمهّل هذه السنوات الأخيرة خوفاً من فراق مَن كانت له كملاكٍ حارس، العزيزة شاديا التي كانت له الزوجة والحبيبة والرفيقة والمحادِثة له عندما لم يعد يستطيع الكلام، التي ساهمت في جعل سنواته الأخيرة سنواتٍ مشرقةً وهانئة، وأعطته من قلبها وحياتها الكثير الكثير
غسان انتقل عنا لكنه لم يفارقنا. هو باقٍ أمثولةً للأجيال المقبلة، قامةً استثنائيةً شامخةً علّمت الكِبَرَ في زمن الصغائر، والعزّةَ في زمن التبعية والإستزلام، والرقيَّ في زمن الإنحطاط، وتركت «نهاراً» يصيح ديكُها مع كل شروق شمس، معلناً أنّ الحريةَ قَدَرُ الإنسان وأنّ الكرامةَ منحةٌ له من الله القدير
حسبُنا أننا عشنا في زمن غسان تويني وعرفناه وقرأناه وسمعناه وأحببناه. طبعاً لبنان بدون غسان غيره مع غسان. والصحافةُ بدون غسان غيرها مع غسان. لكنّ إرثَ غسان من حفيداتٍ وكتابات ومواقف قد يسدُ بعضَ الفراغ
دعائي أن يكون غسان الآن هانئاً في ملكوت الرب، قابعاً عند أقدامه، محاطاً بناديا ونايلة ومكرم وجبران، متشفعاً بنا، وبلبنانه الحبيب، مصلّياً من أجل شاديا ونايلة وميشيل والطفلتين ناديا وغبريالا ووالدتهما سهام، واثقاً من أنهن سيحفظن الأمانة ويتابعن المسيرة. فليكن ذكره مؤبداً
الى المدافن
المصلون أكملوا ينشدون ويرددون: " ارح عبدك حيث جميع القديسين". "ليكن ذكره مؤبدا، مقدسا"، قبل أن ينتقل أفراد العائلة الى المدافن لزيارة الاحباء. فعانقت نايلة شقيق غسان، سامي، ونزلا الدرج معا برفقة العائلة، ليصلّوا هناك امام المدافن، حيث غسان وجبران. ثم نزل شقيقه وليد، وهو يحمل كل الحزن على كتفيه المنحنيتين. فقدان الشقيق قوي تماما كفقدان الاب وفقدان الجدّ. هناك تداخلت كل هذه الاحاسيس أمام المدافن. كانت الدموع تسمع. والصلوات تقرأ، فيما التعزية الوحيدة أن ثمة قيامة بعد الموت، "فالمسيح قام"، والرسالة مستمرة