مقدمة
سواء كان الفيلسوف الألماني هيردر (1744-1803م) هو أول من قال بأولية اللغة على العقل أو لم يكن(1)، فإن من المؤكد أن الإنسان محتاج إلى لغة أولا كي يتمكن من التفكير ثانيا. ثم تأخذ العلاقة بعد ذلك بين اللغة والتفكير طابعا جدليا؛ أي: أن الأمم تفكر كما تتكلم وتتكلم كما تفكر، فتتموضع الآليات والأنماط تفكيرها في لغاتها، وتتسرب أساليب ومستويات تعبيرها إلى هذه الآليات والأنماط فتغدو جزءا منها. وهو ما يرفع تلقائيا أغلوطة الفصل بين اللفظ والمعنى، ويجعل منها محض ثنائية صورية تسوغ ذلك التصور الساذج للغة على أَنَّهَا محض وسيلة أو حامل أو وعاء للموضوعات والثقافات والأفكار.
وإن كان ثمة أمة ينطبق عليها قول هيردر إلى حد بعيد فهي الأمة العربية؛ ليس لأنها تفكر كما تتكلم وتتكلم كما تفكر فحسب، بل لأن حامل رسالتها الحضارية إلى العالم هو محمولها في آن. كما أن لغتها مثلت المنطلق الأساس لمشروع التدوين، مشروع الانتقال من طور الثقافة الشفاهية إلى طور الثقافة الكتابية (2).
إن الكلام على مستقبل اللغة العربية لا ينبغي بحال من الأحوال أن ينظر إليه على أنـه ضـرب مـن (الفاشيـة اللغويـة) كمـا يحلـو لبعض دعـاة مقولـة صراع الحضارات/صراع اللغات أن يقولوا. إذ علاوة على أن (اليونسكو) تولي مسألة حفظ وتطوير اللغات الحية بوجه عام واللغات الرئيسية في العالم بوجه خاص عنايتها الفائقة بدليل تخصيصها يوما عالميا للاحتفال باللغة الأم (3)؛ فإن أحدث الدراسات والإحصاءات في العالم تومئ إلى أن مسألة حفظ ونشر وتطوير اللغات الوطنية والقومية تتصدر لائحة أولويات وميزانيات الدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء.
ويكفي أن نشير بهذا الخصوص إلى أن إيرلندا -رغم أنها من أفقر البلدان الأوروبية- قد أنشأت وكالة للغة الايرلندية، وأنفقت أموالا باهظة للمحافظة عليها. كما أن إندونيسيا خصصت شهر أكتوبر ليكون شهرا قوميا للغة الإندونيسية من كل عام. وتنفق ألمانيا 500 مليون مارك ألماني لخدمة اللغة الألمانية. أما فرنسـا فقد أنفقت عام 1977 (25-30) بليون فرنك فرنسي لخدمة اللغة الفرنسية. وتستخدم الولايات المتحدة خمس هيئات دولية على الأقل لترويج اللغة الإنجليزية. وتبلغ الميزانية السنوية البريطانية للإنفاق على اللغة الإنجليزية 200 مليون جنية إسترليني. أما أسبانيا فقد خصصت عام 1991 (75مليون) دولارا لخدمة اللغة الأسبانية(4).
اللغة العربية في ظل (صراع الحضارات)
يفرد صموئيل هنتنغتون الفصل الثالث من كتابه: «صدام الحضارات» للكلام على مدى صحة القول بوجود حضارة عالمية في ضوء معياري التحديث والتغريب، ويخص اللغة في هذا الفصل بعنوان فرعي مستقل. وانسجاما مع اعتقاده الراسخ بأن العالم مرشح لمزيد من الاستقطاب الحضاري وليس لمزيد من الانفراج الحضاري بوجه عام، وأن الغرب مرشح لتهديدات حضارية قادمة؛ فإنه لا يدخر وسعا لتقويض اطمئنان القائلين بأن (الإنجليزية هي لغة العالم) مؤكدا أن الدليل الوحيد الذي يمكن الاستناد إليه كفيل بنفي هذه الطمأنينة.
ووفقا لهذا الدليل (بيانات البروفيسور سيدني كلبرت/جامعة واشنطن – سياتل، والتي تشمل الفترة (1958-1992) يتبين لهنتنغتون أن ثمة انخفاضا ملموسا على مستوى العالم في عدد الناطقين بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية واليابانية في المقام الأول. وأن ثمة انخفاضا أيضا قد طرأ على عدد الناطقين بالماندارينية الصينية. وأن هذا الانخفاض تناظره زيادة ملموسة على عدد الناطقين بالهندية والمالاوية والعربية والبنغالية والإسبانية والبرتغالية. ويخلص هنتنغتون إلى أن نسبة الناطقين بالإنجليزية قد هبطت على مستوى العالم من نسبة 9,8% عام 1958 إلى نسبة 7,6% عام 1992، وهو ما يدعوه إلى القول بأن اللغة التي تبدو غريبة لـ92% من البشر لا يمكن أن تكون لغة العالم؛ بل وسيلة للاتصال بين الثقافات نظرا لأنها أصبحت (منزوعة العرقية)، لهذا فلن تكون مصدرا للهوية الاجتماعية.
يمكننا الحدس بأن هنتنغتون قلق جدا؛ لأن اللغة العربية تبعا للإحصاءات التي يوردها هو قد سجلت أعلى ارتفاع في نسبة الناطقين باللغات الرئيسية على مستوى العالم فقفزت من 2,7% إلى 3,5% عام 1992. فيما ظلت (الماندارين) تتصدر قائمة اللغات في العالم رغم الانخفاض الطفيف الذي طرأ على نسبة الناطقيـن بها (15,6% عام 1958، 15,2% عام 1992)، وهو ما يثير قلقه الصريح ويدعوه إلى التحذير من أن تدهور قوة الغرب تدريجيا أمام الحضارات الأخرى سوف يفضي إلى التراجع التدريجي لاستخدام الإنجليزية التي سيتخلى مكانها للماندراين إذا حلت الصين محل الغرب كحضارة سائدة.
ومن نافل الحديث القول: إن قلقه جراء إمكانية صعود الحضارة الإسلامية ولغتها العربية لا يقل عن قلقه جراء صعود الحضارة الصينية ولغتها الماندارين.
وفي ضوء تجربة الهند يلاحظ هنتنغتون أن استخدام الإنجليزية في المجتمعات غير الغربية يتزايد في أوساط النخب لأسباب تتصل برغبتها في تمييز نفسها عن فئات المجتمع العادية ولتسهيل اتصالها بالغرب. كما يتزايد على مستوى الجامعات لتحسين فرص الطلبة الخريجين في الحصول على عمل في خضم المنافسة الكونية على رأس المال البشري. لكنه ينبه في المقابل على أن تزايد الضغوط الاجتماعية والسياسية وتزايد المؤسسات الديموقراطية ونسبة مشاركة الناس العاديين في هذه المؤسسات يؤدي غالبا إلى انهيار اللغات الغربية وسيادة اللغات القومية.
إن توزيع اللغات في العالم وعبر التاريخ عكس وما زال يعكس -على حد قول هنتنغتون- توزيع القوة العالمية. ذلك أن اللغات الأوسع انتشارا (الإنجليزية، الماندارين، الإسبانية، الفرنسية، العربية، الروسية) قد مثلت لغات (دول إمبراطورية) أرغمت شعوبا أخرى على استخدام لغاتها.
ولأن التحولات في توزيع القوة العالمية تؤدي عادة إلى تحولات في استخدام اللغات، كما يؤكد هنتنغتون وتؤكد وقائع التاريخ الحضاري؛ فإن اللغة العربية ستكون مستهدفة إذا شئنا التعبير بلغة متشائمة، أو مندوبة للنهوض إذا شئنا التعبير بلغة متفائلة، بالنتيجة والمحصلة ومن أي زاوية نظرنا إليها في ظل تعالي الاقتناع بمقولة صدام الحضارات في الغرب. سواء افترضنا أن الغرب سوف يتجه إلى تأكيد هيمنته على الوطن العربي لتزايد إحساسه بالقوة بوجه عام، أو لتزايد إحساسه بالخوف من أن تحل القوة الصينية محله بوجه خاص، أو افترضنا أنه سوف يتجه إلى تأكيد هيمنته لتزايد إحساسه بالخوف من أن تحل القوة الإسلامية محله بوجه أخص، فإن اللغة ستكون أحد وسائل الغرب للهجوم. وفي كل هذه الفروض سوف تكون اللغة العربية أهم وسائل الدفاع وأكثرها عرضة للتأثر بقانوني الإزاحة والطرد المركزي تدريجيا.
اللغة العربية في ظل العولمة
قد يضطلع تعبير مثل (دكتاتورية السوق العالمي) بتقديم وصف كاف لجوهر العولمة. لكن تعبيرا مثل (دكتاتورية ذات مسؤولية محدودة) يبدو أكثر دقة في وصف جوهر العولمة وسلبياتها. وهو تعبير استخدمه كل من بيتر مارتين وشوماك في كتابهما المشهور: (فخ العولمة)؛ لاستيفاء الوجهين اللذين تنطوي عليهما العولمـة(6). فهي من جهة لا تمتلك أدنى قدر من التسامح إزاء ضرورة توحيد الاقتصاد العالمي تحت مظلة واحدة بلا حدود وطنية أو هويات، وإزالة أية عقبة يمكن أن تعترض هذه الضرورة، دولة كانت أم شعبا أم ثقافة أم تاريخا. وهي من جهة ثانية غير معنية بأية آثار سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية يمكن أن تنشأ جراء إصرارها على المضي في طريقها المحتوم الذي لا طريق غيره كما يصر دعاتها على الاعتقاد.
ويوضح مراجع الكتاب هذه المفارقة بالقول: (... دأب هؤلاء المنظرون على إطلاق تعميمات ذات طابع غير ديموقراطي وشمولي وغير مبرر علميا، كالقول مثلا: «إن مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئا لا يطاق»، و «إن دولة الرفاه تهدد المستقبل، وإنها كانت مجرد تنازل من جانب رأس المال إبان الحرب الباردة... وإن شيئا من اللامساواة بات أمرا لا مناص منه». ويزيدها إيضاحا في معرض التعليق على أوهام القرية الكونية المتشابهة فيقول: (بخلاف التوحد التلفزيوني الذي يربط بين من يعيشون في أفريقيا وآسيا وكليفورنيا، وبخلاف بضع مدن تتركز فيها وسائل الصناعة الحديثة والتقنيات العالية، وتتصل ببعضها البعض وبالعالم الخارجي أكثر من اتصالها بالبلاد التي تنتمي إليها، فإن الجزء الأعظم من العالم يتحول، خلافا لذلك إلى جزر منفصلة، وإلى عالم بؤس وفاقة، ويكتظ بالمدن القذرة والفقيرة)(7).
ورغم أن كلا من بول هيرست وجراهام طومبسون لا يماريان في كتابهما (ما العولمة؟) بخصوص استئثار مفهوم العولمة باعتناء عالمي قل نظيره، وعلى كل الصعد والمستويات، إِلاَّ أنهما يؤكدان حقيقة ليست مفاجئة تتمثل في (أن العالم لا يزال أبعد عن أن يكون كونيا بحق،.. لأن تدفقات التجارة والاستثمار والأموال تتركز في ثلاثي أوروبا واليابان وأميركا الشمالية)؛ وهو ما يدعوهما إلى عنونة مدخل كتابهما بعنوان دال جدا: (هل العولمة خرافة ضرورية؟!)(
.
وأخيرا: فإن مستقبل اللغة العربية منوط أولا وآخرا بتغيير الصورة النمطية لمدرس اللغة العربية؛ إذ مهما استفضنا في استشراف آفاق استنهاض اللغة العربية، فإن أس التقاعس يتمثل في إعادة تأهيل وبناء شخصية مدرس اللغة العربية على النحو التالي:
أولا: الاعتناء باستقطاب طلبة من ذوي المعدلات المرتفعة، ويرغبون بدراسة اللغة العربية فعلا؛ بدلا من أن تعيش أقسام اللغة العربية على طلبة ذوي معدلات منخفضة جدا، واضطروا لدراسة اللغة العربية؛ لأنه لم تتح لهم فرص الالتحاق بتخصصات دراسية أخرى.
ثانيا: توجيه مباحث اللغة العربية وجهة وظيفية اتصالية حرصا على إكساب اللغة العربية سمات المعاصرة والعملية، ودرءا لتهمة التلقين وفائض البلاغة عنها.
ثالثا: ربط تدريس اللغة العربية بفروع المعرفة العلمية المعاصرة، حرصا على اطلاع جيل من المدرسين المعاصرين.
رابعا: توجيه طلبة اللغة العربية للعمل في قطاعات متعددة سوى التدريس، مثل: التدقيق اللغوي والتحرير الصحفي والترجمة والعلاقات العامة والسياحة والسلك الدبلوماسي.
خامسا: إكساب طلبة اللغة العربية ثقافة فكرية رفيعة موروثة ومعاصرة، بغية توسيع آفاقهم وإكسابهم القدرة على مناقشة وتحليل قضايا العصر والتعبير عنها بلغة سليمة.
************
الهوامش
*) باحث وأكاديمي من الأردن.
1- انظر: الموسوعة الفلسفية، روزنتال ويودين، ترجمة: سمير كرم، دار الطليعة، ط 5، بيروت 1985، ص557.
2- انظر: تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، دار الطليعة، ط 2، بيروت 1985، ص75- ص88.
3- تحتفل اليونيسكو سنويا بهذا اليوم في الحادي والعشرين من شهر شباط.
4- انظر: اللغة والاقتصاد، فلوريان كولماس ترجمة أحمد عوض، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2000، ص144-148.
5- صدام الحضارات، صموئيل هنتنغتون، ترجمة: طلعت الشايب، دار سطور، ط2، القاهرة 1999، ص98 – 106.
6- انظر: فخ العولمة – الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية، هانس بيتر مارتين وهارالد شومان الدشومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، سلسة عالم المعرفة، الكويت 1998، ص87 وما بعدها.
7- المرجع السابق، ص11.
8- انظر: ما العولمة؟ الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، بول هيرست وجراهام طومبسون، ترجمة: د. فالح عبدالجبار، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2001، ص9 وما بعدها.