مجالات العلوم فى امجاد العرب 2013 ، بحث علمى عن مجالات العلوم 2014
في كتاب الله تعالى آيات محكمات كثيرة استودع فيها ربّنا من الإعجاز العلمي ما يدعو إلى التأمّّّل والتفكير في ملكوت السموات والأرض، والحثّ على طلب العلم، والسير في الأرض، والنظر في كيفيّة بدء الخلق.
وجرت سنّة رسوله الأمين على تكريم العلم وأهله، وتفضيل مجالسه على مجالس العبادة، والحضّ عليه، فقال الصادق الأمين: (من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم).
وكان من هديه صلّى الله عليه وسلّم: دعوته لتقييد العلم بالكتابة، والتحذير من كتمان العلم، وجعل طلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة، والتواضع في طلبه.
وكان المسلمون بناة حضارة أيقظت الفكر الغربي من سباته، يوم كانت اللغات الأوروبيّة خالية من الكلمات العلميّة المقابلة لها في العربيّّة، حتى أنّ معجم (أكسفورد) يورد عشرات الكلمات العربيّة الأصل ؛ وهم أوّل من ابتدع طريقة البحث العلمي القائم على التجربة.
وشهد مؤرخو العلوم من المستشرقين والمستعربين بالريادة والتقدّم للعرب، وفي مقدّمتهم المستشرق البلجيكي (جورج سارتون) في كتابيه (مقدّمة لتاريخ العلم) و(تاريخ العلم) حيث يقول: عندما أمسى الغرب مستعداً استعداداً كافياً للشعور بالحاجة إلى معرفة أعمق، وعندما أراد آخر الأمر أن يجدّد صلاته بالفكر القديم، التفت أوّل ما التفت، لا إلى المصادر الإغريقيّة، ولكن إلى المصادر العربيّة.
وشهد المستشرق الإنكليزي (روم لاندو ) في كتابه (الإسلام والعرب) للحضارة العربيّة بالفضل فقال: العلم هو أجلّ خدمة أسدتها الحضارة العربيّة إلى العالم الحديث، فالإغريق نظّموا وعمّموا، ووضعوا النظريّات، ولكن روح البحث، وتركيم المعرفة اليقينيّة، وطرائق العلم الدقيقة، والملاحظة الدائبة المتطاولة كانت غريبة على المزاج الإغريقي، وإنّما كان العرب هم أصحاب الفضل في تعريف أوروبا بهذا كله.
وتساءل (لاندو) عن الدوافع الرئيسيّة إلى منجزات العرب العلميّة فقال ملخّصاً بما يلي: رغبة متّقدة في اكتساب فهم أعمق للعالم كما خلقه الله، وقبول للعالم المادي، لا بوصفه دون العالم الروحي شأناً ومقاماً، ولكن بوصفه صنواً له في الصحّة والرسوخ، وواقعيّة قويّة تعكس في صدق وإخلاص طبيعة العقل العربي اللاعاطفي، وفضولهم النهم الذي لا يعرف الشبع.(1)
وقال (نيكلسون ): إنّ أعمال العرب العلميّة اتصفت بالدقّة، وسعة الأفق، وقد استمد منها العلم الحديث، مقوّماته بصورة أكثر فاعليّة مما نفترض.
يقول الدكتور الشطي: ومما حيّر المفكّرين الباحثين قصر المدة التي قضاها العرب في التقاط العلم، وبلوغهم الذروة فيه، على أنّ أسسها ترتد في نظري إلى ذكاء العربي، وما جبل عليه من حب للاستطلاع، وما شجّع عليه بآيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة من طلب للعلم مهما عزّ المنال.(2)
المجامع العلميّة:
وكان للمسلمين في عصورهم الزاهية مجامع علميّة ترعاها الخلفاء والأمراء، فقد ذكر صاحب كتاب تجارب الأمم أنّ عضد الدولة أفرد في قصره ببغداد لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضعاً يقرب من مجلسه، فكانوا يجتمعون فيها للمفاوضة، آمنين من السفهاء ورعاع العامّة، وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم، وكرامات تتصل بهم.
في مجال الكيمياء :
أجمع مؤرّخو الحضارة على أنّّ فضل تأسيس الكيمياء الحديثة، وبناءها على قواعد صحيحة، قائمة على التجارب والكشف، يعود إلى المسلمين.
وأنّ المحاولات المبكّرة عند العلماء المسلمين لتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة هي الحافز الوحيد للتقدم في علم الكيمياء، رغم ما قيل من نجاح أحرزه الرازي في هذا الشأن واحتفظ لنفسه بالسر، لأنّ التقدّم في مجال الطب والصيدلة والصناعة، استوجب المزيد من التجارب والاكتشافات وكان لظهور عقليّات علميّة فذّة كجابر بن حيان، ومحمد بن زكريا الرازي، وتوفّر مناخ علمي شجّعته الدولة ودعمته، من أهم الأسباب التي أسهمت في تطوّر شأن هذا العلم.
اهتم مفخرة الشرق جابر بن حيان ، بالتجارب العلميّة، إلى درجة الإسراف وجعلها شرطاً أساسياً للعلم الحق، وفطن إلى ضرورة تحديد المعاني الواردة في البحث العلمي، وصوّر حدود المنهج التجريبي أدقّ تصوير، ورسم حدود المنهج الرياضي، ومع هذا كلّه فهو لم يخلص من تهويمات الفكر البدائي.
ويعود الفضل إليه في تقطير الخلّ للحصول على حامض الخليك المركّز، واستعمال ثاني أكسيد المنجنيز في صنع الزجاج، وتحضير نوع من الطلاء يمنع الصدأ عن الحديد، واستخدام مادّة الشب في تثبيت ألوان الصباغة، وصنع ورق غير قابل للحرق، واستنباط طرق لتحضير الفولاذ وتنقية المعادن، وصبغ الجلود والشعر.(3)
ويعود الفضل إلى جابر بن حيان أيضا في تحضير حامض الكبريت وتقطيره من الشبّة، وفي تحضير حامض النتريك، وهو أوّل من كشف الصودا الكاوية، واستحضر (الماء الملكي) الذي يذيب الذهب بإضافة حمض النتريك إلى ملح النشادر، فحصل على الذهب بشكل سائل، وأوّل من ابتكر طريقة فصل الذهب عن الفضّة بواسطة الحامض، وهي نفس الطريقة التي مازالت تستخدم حتى الآن لتقدير عيارات الذهب في السبائك الذهبيّة.
وهو أوّل من لاحظ ما يحدث من راسب كلوريد الفضّة عند إضافة ملح الطعام إلى محلول نترات الفضّة، كما استحضر مركّبات أخرى مثل كربونات الكالسيوم، وكربونات الصوديوم، واستعمل ثاني أكسيد المغنسيوم في صنع الزجاج، وكانت هذه المركّبات ذات أهميّة عظمى في عالم الصناعة، فبعضها يستخدم في صناعة المفرقعات والأصبغة، والبعض الآخر يستخدم في تحضير الصابون، والحرير الصناعي.(4)
أما أشهر كتب جابر فهي: (التراكيب) و(الحدود) أي تعريف الألفاظ العلميّة، و(الخالص) و(السبعين).
وبلغ من شهرته أنّ عالماً كبيراً مثل (بريستلي ) مكتشف الأوكسجين، اهتم بدراسة اللغة العربيّة لشغفه بالاطلاع على مؤلّفات جابر في أصولها العربيّة.(5)
وقدّر البيروني الذي برع في الكيمياء وكان حجّة في شؤون الهند ، الوزن النوعي لنحو ثمانية عشر معدناً حتى الرقم العشري الرابع، بالغاً فيه درجة عالية من الدقّة.
ويعود إلى الرازي فضل وصف الأجهزة والأدوات الكيميائيّة، وإحلال الصبغة اللامعة من المرقشيتا المذهب محل الذهب الخالص.
أما الشيخ الرئيس ابن سينا فقد رفض رفضاً محقّقاً نظريّة تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، وأنكر على الكيميائيّين دعواهم قلب الأنواع قلباً حقيقياً.
ذكر الدكتور عزّ الدين فرّاج جملة من العمليّّات البسيطة التي كانت معروفة عند العرب، والتي لا تزال تستعمل حتى الآن في معالجة المواد الكيميائيّة ومنها:
عملية التقطير: لفصل المواد عن بعضها، بتصعيدها إلى بخار ثم تكثيفها إلى سائل ، وذلك باستخدام جهاز التقطير.
عمليّة الملغمة: وذلك بتذويب المعادن في الزئبق دون مركّباتها، ثم استخلاصها بواسطة التصعيد.
عمليّة التسامي: وذلك بتسخين الجسم الطيّار، حيث يتكاثف بخاره إلى مادّة صلبة، دون المرور على الحالة السائلة.
عمليّة التكليس: وذلك بتسخين الجسم في الهواء بحرارة عالية حيث تتم أكسدته.
عمليّة التبلور: وذلك بفصل البلّورات النقيّة، كما يحدث عند فصل البلّورات من ماء البحر.
عمليّة الترشيح: وذلك بتنقية السوائل بواسطة المناخيل، أو قطع القماش.(6)
وإلى العرب يعود الفضل في اكتشاف العديد من المركّبات كالكحول، وزيت الزاج، وماء الفضّة، وماء الذهب، وحذق الصباغة والدباغة
في الفيزياء :
عرف العرب الضغط الجوي، وعرفوا أنّ وزن الجسم في الهواء يختلف عن وزنه في الماء، وأنّ كثافة الهواء في الطبقات السفلى أكبر منها في الطبقات العليا، وأنّ الهواء لا يمتدّ إلى ما لا نهاية، بل ينتهي عند ارتفاع معين، وصنّفوا الجداول الكثيرة للأوزان النوعيّة للمعادن والأحجار الكريمة، واللبن والزيت.
وكان أبو الريحان البيروني ، أكبر عقليّة عرفها التاريخ، أحد الأوائل الذين اشتغلوا بمسألة الوزن النوعي، حيث عيّن الكثافة النوعيّة لثمانية عشر نوعاً من الأحجار الكريمة، ووضع القاعدة التالية: (إن الكثافة النوعيّة للجسم تتناسب مع حجم الماء المزاح) بالإضافة إلى تفسيره عمل العيون الطبيعيّة، والآبار الإرتوازيّة، وفق مبدأ توازن السوائل في الأواني المستطرقة، وقام العلماء من بعده بعمل الجداول الدقيقة للعناصر، واخترع الخازن المصري، آلات خاصّة لقياس الوزن النوعي للسوائل.
أما عبد الرحمن بن أحمد المشهور بابن يونس فقد سبق (غاليلو ) في معرفة الرقّاص (الموار) بستّة قرون، واعترف بذلك العالم الفرنسي (سيديو ).
واهتمّ العلماء المسلمون بالجاذبيّة، وعرفوا شيئاً من قوانينها، فسبقوا (نيوتن ) و(تورشيللي ) في أبحاث الضغط الجوي، ومهّدوا الطريق للنظريّات والاختراعات التي نهض بها العلماء في أوروبا .
علم الضوء (البصريّات):
بلغت شهرة العرب بهذا العلم درجة كبيرة، حتى أنّ (فريدريك الثاني هوهنستاوفن) التمس أجوبة علماء هذا الفنّ المسلمين عن ثلاثة أسئلة تدور على علم البصريّات؛ ومن الجدير بالذكر أنّ هذا العلم الذي عرف عند العرب بعلم البصريّات، هو أحد فروع الفيزياء أو علم المناظر.
ويعود الفضل إلى علماء العرب في بناء الأسس التي قام عليها علم الضوء الحديث، وفي مقدّمتهم الحسن ابن الهيثم ، صاحب كتاب (المناظر) الذي يعتبر بحق من أكبر الكتب استيفاءً لبحوث الضوء، وهو الذي قلب النظريّات القديمة.
ويعتبر محمد بن حسن البصري ، المشهور بابن الهيثم رائداً في علم الضوء، ونابغة فيه، ومؤسّساً لعلم الضوء الحديث، وهو أوّل من فكّر بتشييد سد على نهر النيل .
إنجازات ابن الهيثم في علم البصريّات:
توصّل ابن الهيثم إلى نتيجة مفادها أنّ الأشياء المرئيّة هي التي تعكس الأشعّة على العين، فتبصرها بواسطة عدستها، وخرج بنظرياته في الإبصار، وفي خصائص الضوء عند انعكاسه وانكساره، أو نفاذه في الأجسام الشفّافة، وابتكر مرآة تفوق كثيراً مرايا الإغريق، وتحدّث في وقت مبكر عن طبيعة البؤرة الضوئيّة، والتكبير، والانقلاب الموضعي للصورة، وعن تكوين الألوان، وألوان الطيف، وظاهرة الشفق، والهالة الضوئيّة، والكسوف والخسوف.(7)
وتضمن كتابه العلمي المبوّب تبويباً منطقياً: (المناظر) في سبعة مجلّدات، نظريّات جديدة في المرايا المستوية والمخروطيّة والأسطوانيّة والكرويّة والبيضاويّة، وفي الانحراف والانكسار والإبصار، والغرفة المظلمة، وهو أوّل من استخدم الغرفة المظلمة لرصد الخسوف، وقال إنّ الضوء خاصّة جوهريّة ذاتيّة لبعض الجسام، مثل الكواكب والنار والشموع والفحم المحترق، وصفة عرضيّة في الأجسام المعتمة أو الشفّافة التي تعكس ضوء الأجسام الأخرى، وقال: إنّ الضوء ينبعث في خط مستقيم وفي كل الاتجاهات ونقد نظريّة القدماء.(
وتوصّل أيضاً إلى أنّ للضوء سرعة محدودة أي أنّه ينتقل في زمان ومكان، وقدّر سرعة الضوء، وهو أوّل من تحدث في هندسة الإضاءة، معتبراً بذلك من أوائل علماء الطبيعة التطبيقيّة، ودرس تشريح العين، ورسمها بوضوح، ووضع أسماء علميّة دقيقة لأجزائها، أخذها عنه الإفرنج، ولا تزال مستعملة حتى الآن، كالشبكيّة والقرنيّة والسائل المائي والسائل الزجاجي، بالإضافة إلى تبحّره في العلوم الرياضيّة والفلكيّة.(9)
ونبغ في هذا العلم الموسوعي الكبير أبو الريحان البيروني ، فأضاف إلى نبوغه في الرياضيّات والفلك وعلم التاريخ، فتحاً جديداً في عالم المعرفة باختراعه آلة لحساب الوزن النوعي، ونظريّاته في علم السوائل، وحفر الآبار، واكتشافه أن سرعة الضوء أعظم من سرعة الصوت.
أما الكندي فقد ألّف كتابين قيّمين: في (اختلاف المناظر) و(اختلاف مناظر المرآة).
الصوت:
وعني المسلمون في أبحاثهم بعلم الصوت، أحد فروع الفيزياء، فقسّموا الأصوات إلى عدّة أنواع، منها الجهير والخفيف، ومنها الحاد والغليظ، وشرحوا العلاقة بين طول الوتر، وغلظه وقوة توتره، وشدّة النقر من جهة، ونوع الصوت الذي يحدث من جهة أخرى، وعلّلوا الصدى، وشرح القزويني سبب رؤية البرق قبل أن يسمع الرعد.(10)
في الرياضيّات :
أدرك المسلمون في وقت مبكّر أنّ الرياضيّات أمّّ العلوم التجريبيّة كلّها، فأخذوا عن الهنود نظام الترقيم المعمول به الآن في البلاد الإسلاميّة، وهذّبوها، وهي المشهورة بالأرقام الهنديّة، وطريقة كتابة الأرقام الغباريّة المشهورة بالأرقام العربيّة، المعمول بها الآن في بلاد المغرب العربي وأوروبا، واخترعوا الصفر، وجعلوه رقماً حسابيّاً، واستعملوه لحفظ المراتب في العمليّات الحسابيّة، والنظام العشري في العدد، والجداول الخوارزميّة ـ نسبة إلى محمد بن موسى الخوارزمي ـ المشهورة باللوغاريتمات، ووضعوا فن الجبر والمقابلة والفرائض، وعالجوا المعادلات المفردة والمركّبة من مسائل الجبر، والمعادلات من الدرجة الثالثة، وهم أوّل من طبق الجبر على الهندسة، وقسّموا الحساب إلى حساب ذهني، وحساب يحتاج إلى القلم والورق، ووضعوا علامة الكسر العشري، وعرفوا المتواليات الحسابيّة والهندسيّة، واستخرجوا الجذور، والمجهول، وقاموا بتحديد النسبة بين محيط الدائرة وقطرها، وقسّموا الأعداد إلى فرديّة وزوجيّة، وبحثوا في نظريّة ذات الحدّين، وتعمّقوا في مباحث المخروطات، وحوّلوا علم المثلثات الكرويّة، بإرجاعهم حلّ مثلّثات الأضلاع إلى بضع مثلّثات أساسيّة.
ومما لفت أنظار مؤرّخي الحضارات المحقّقين لإسهامات العرب في حقل الرياضيّات، تلك الصلة الوثيقة بين مكتشفاتهم في هذا العلم، وما بين مبادئ الدين وأوامره.
ورغم إدراج المسلمين الرياضيّات في جملة العلوم الفلسفيّة، فإن العلماء المسلمين الذين قاوموا الفلسفة والفلاسفة لم يرفضوا العلوم العدديّة، رفضهم للفلسفة.
وهكذا وجدنا الموحّدين ينهضون بالرياضيات، نهضتهم بسائر العلوم، ويجعلوها مقرّرة في جملة مواد التدريس.
يقول (روم لاندو ): إنّ العرب ما كان لهم أن يبلغوا هدفهم هذا لو اعتمدوا على نظام الأرقام الرومانيّة الثقيل المربك القائم آنذاك، وعلى الهندسة والجبر الإغريقيين البدائيين نسبياً ؛ وفي تقدّمهم المثير في حقل الرياضيّات وجدوا في لغتهم الرخصة نفسها مسعفاً رائعاً، ذلك بأنّ العربيّة ـ وهي لغة مرنة غنيّة دقيقة ـ تساعد أروع ما تكون المساعدة على صحّة المصطلح ودقّته.
ويقول: إنّ تطوير الرياضيّات من مرحلتها الإغريقيّة البدائيّة نسبياً إلى مرحلتها العربيّة العلميّة ليقدّم لنا مثلاً فاتناً على الطرائق التي تستطيع بها المعتقدات الدينيّة الراسخة لشعب من الشعوب أن تكيّف وتشكّل حتى الجهود الدنيويّة التي ينطوي عليها حقل علمي خالص كحقل الرياضيّات؛ ذلك بأنّ الفرق بين الرياضيّات الإغريقيّة والرياضيّات العربيّة ليس فرقاً علمياً فحسب، ولكنّه يدلّ أيضاً على تغاير عميق في ضروب الاستشراف الروحي والأيديلوجي.(11)
يقول (كاجوري ): إن العقل ليدهش عندما يرى ما عمله العرب في الجبر، وقد طبّق العرب الهندسة على المنطق، ولولا العرب لما كان علم المثلّثات.
وبرز في الرياضيّات علماء فضلاء ارتقوا بفكرهم، ودوّنوا مؤلّفاتهم المشهورة في الآفاق أمثال: محمد بن موسى الخوارزمي صاحب كتاب (حساب الجبر والمقابلة) وابن الهيثم، وشجاع بن أسلم ، وابن أبي الصلت، والكندي، وثابت بن قرة، والبتّاني، والكرخي، وعمر الخيّام، صاحب كتاب (الهندسة) وواضع طريقة الهندسة التحليليّة التي سبق بها (ديكارت ) وغيرهم.
إنجازات علميّة متقدّمة:
محاولة الطيران: اقترن اسم عباس بن فرناس ، القرطبي المولد والمنشأ، حكيم الأندلس ، وأحد العبقريّات العلميّّة العربيّة، بمحاولة تطيير جثمانه، واختراع آلة للطيران، وهي فكرة سابقة لزمانها، عندما راقب طيران الطيور في الفضاء، وأدرك أنّ ثقلها النوعي يخفّ لمكان الريش منها، ولمقاومة الهواء لجناحي الطائر، فكسا جسمه بالريش، ومدّ له جناحين يتناسبان مع وزنه، ثم صعد إلى برج بمدينة قرطبة، فقذف بنفسه منه، واندفع في الهواء طائراً، فحلّق فيه مسافة قصيرة، ثم سقط على الأرض بعد مسافة بعيدة من البرج الذي انطلق منه.
ولإن كانت تجربة ابن فرناس لم تصل إلى درجة النجاح، فإنّها قد فتحت الآفاق لمن جاء بعده من العلماء للوصول إلى نتائج عمليّة باهرة في هذا الميدان.
وذكر الخلادي نقلاً صاحب (نفح الطيب): أنّ ابن فرناس أوّل من استنبط ببلاد الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأوّل من فك بها كتاب العروض للخليل، وأوّل من فك الموسيقى، وصنع الآلة المعروفة بالمنقالة، ليعرف الأوقات من غير رسم ولا مثال، وصنع في بيته هيئة السماء، وخيّل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود، وكان كثير الاختراع حتى نسب إليه السحر.(12)
اختراع الآلات اللولبية :
وذكر الوزير التركي ضيا باشا في كتابه الأندلس الذاهبة، نقلاً عن مؤرّخي الفرنج، أنهم نقلوا عن المراجع العربيّة، أنّه في زمن الملك عبد المؤمن بن علي أحد ملوك الموحّّدين، اخترع المهندس العربي الشهير الحاج إلياس يعيش (المعروف بالأحوص المالقي) للملك المذكور مقطورة متحركة، يستعملها الخليفة المذكور في تنقلاته بين قصره والمسجد الجامع لأداء الصلاة، وكانت هذه المقطورة تشتمل على محرّكات لولبيّة، ولها عجلات وتسير تلقائياً من نفسها مثل العربة، وذلك استناداً إلى خاصيّة مرونة المعادن.(13)
مقال عن مجالات العلوم فى امجاد العرب 2013 ، بحث علمى عن مجالات العلوم 2014
قيل وكانت المقصورة تتسع نحو ألف شخص، وكانت تتحرّك بواسطة عجلات تثبّت في أسفلها، ولها ستّّة أزرع أو جوانب تمتد بواسطة مفاصل متحرّكة، وقد صنعت هذه العجلات والمفاصل بحيث لا يترتب عليها عند تحريكها أقلّ صوت، بل تدور جميعها في أتم سكون، ونظمت المحرّكات بطريقة هندسيّة دقيقة بحيث تتحرك جميعاً في وقت واحد، متى رفع الستار عن أحد البابين اللذين يدخل منهما أمير المؤمنين إلى المسجد عند صلاة الجمعة، وكانت المقصورة تبرز من جانب، ويبرز المنبر من الجانب الثاني، وتلتفّ الجوانب في نفس الوقت حول مجلس أمير المؤمنين، كذلك نظّم المنبر بحيث يفتح بابه متى صعد إليه الخطيب، ويغلق من تلقاء نفسه متى اتخذ الخطيب مكانه، وذلك كلّّه دون أن يسمع أو يرى أثر لهذه الحركات.(14)
اختراع الدمى الميكانيكيّة:
ذكر المستشرق (روم لاندو ): أنّ الدمى الميكانيكيّة في (قاعة الشجرة) كانت أعظم ما أدهش رسل قسطنطين السابع البيزنطي في زيارتهم الرسمية عام 917م للخليفة المقتدر ، واشتملت على شجرة مصنوعة من الذهب والفضّة، ذات أغصان، كانت طيور أتوماتيكيّّة ذهبيّة تتنقل عليها مغرّدة في فرح وابتهاج.(15)
اختراع قلم الحبر:
نقل الخلادي عن مخطوط (المجالس والمسامرات) للقاضي النعمان بن محمد ، أنّ المعز لدين الله ، طلب من صنّاعه عمل قلم الحبر فقال: نريد أن نعمل قلماً نكتب به بلا استمداد من دواة، يكون مداده في داخله، فمتى شاء الإنسان كتب به فأمدّّه، وكتب به ما شاء، فإنّ تركه ارتفع المداد، وكان القلم ناشفاً منه، يجعله الكاتب في كمّه، أو حيث شاء، فلا يؤثر فيه، ولا يرشح شيء من المداد عنه، ولا يكون ذلك إلاّ عندما يبتغى منه، ويراد الكتابة منه، فيكون آلة عجيبة لم نعلم أنّنا سبقنا إليها، ودليلاً على حكمة بالغة لمن تأمّلها وعرف وجه المعنى فيها.
قال القاضي النعمان: فما مرّ بعد ذلك إلاّ أيام قلائل، حتى جاء الصانع الذي وصف له الصنعة، بالقلم معمولاً من ذهب، فأودعه المداد، وكتب به فكتب، وزاد شيئاً من المداد على مقدار الحاجة، فأمر بإصلاح شيء منه فأصلحه وجاء به، فإذا هو قلم يقلب في اليد ويميل إلى كلّ ناحية، فلا يبدو منه شيء من المداد، فإذا أخذه الكاتب وكتب به، كتب أحسن كتاب ما شاء أن يكتب به، ثم إذا رفعه عن الكتاب أمسك المداد، فرأيت صنعة عجيبة لم أكن أظن أن أرى مثلها.(16)
مقال عن مجالات العلوم فى امجاد العرب 2013 ، بحث علمى عن مجالات العلوم 2014
وذكر الدكتور حسين مؤنس في (معالم تاريخ المغرب والأندلس) أنّ الأندلسيّين عرفوا قلم الغاب، وكانوا يسمّونها (الأنبوب) بل عرفوا أقلام الحبر، وتفنّنوا في صناعة المحابر من الزجاج والبلّور والرخام.
وكانوا يزخرفونها ويكتبون اسم صاحبها عليها بواسطة الحفر مع بعض أبيات من الشعر، ومنها محابر على هيئة الخنجر في قرابه توضع في حزام الثوب مع الأقلام.
التفريخ الصناعي:
ذكر المقريزي في خططه المسماة (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) أنّّ مصر اختصّت بتفريخ الدجاج صناعيّاً، فكان فيها معامل كالتنانير يوضع فيها البيض بترتيب خاص، ويوقد عليه بما يحاكي الحرارة الطبيعيّة في حضانة الدجاجة لبيضها، وتخرج من تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاج مصر، ولا يتم مثل هذا بغير إقليم مصر.(17)
اختراع آلة حساب التوقيت العالمي:
جاء في الباب السادس والخمسين من كتاب (الزيج الصابي) لأبي عبد الله البتّاني الذي جاء في سبعة وخمسين باباً، وصف آلة بسيطة وقائمة، تدعى الرخامة، وظيفتها معرفة ما يمضي من النهار من ساعة زمانيّة في كل بلد.(18)
اختراع المرايا المحرقة:
عرف المسلمون عمل المرايا المحرقة بانعكاس أشعّة الشمس عنها، وأحوال الخطوط الشعاعيّة المنعطفة والمنعكسة والمنكسرة ومواقعها وزواياها ومراجعها، واستخدموها في محاصرات المدن والقلاع، وخصّوا العدسات المقعّرة ذات القطع المكافئ بقوّة الإحراق، وألف في هذا العلم الحسن بن الهيثم.(19)
وذكروا أنّ عدسة زجاجيّة كانت منصوبة فوق منارة الإسكندريّة ، كانت تقوم بإحراق سفن الأعداء إذا حاولت دخول الميناء.
* * * * *
المراجع :
1 ـ الإسلام والعرب ص 245 روم لاندو.
2 ـ مجموعة أبحاث في الحضارة العربية الإسلامية ص 78 د. أحمد شوكت الشطي .
3 ـ الحضارة الإسلامية ص 257 د. عطية القوصي .
مقال عن مجالات العلوم فى امجاد العرب 2013 ، بحث علمى عن مجالات العلوم 2014
4 ـ فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوروبية ص 47 د. عز الدين فراج.
5 ـ أثر العرب في الحضارة الأوروبية ص 214 جلال مظهر .
6 ـ فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوروبية ص 43 د. عز الدين فراج .
7 ـ فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوروبية ص 51 د. عز الدين فراج.
8 ـ دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي ص 25 د. عبد الرحمن بدوي.
9 ـ فضل الحضارة الإسلامية والعربية على العالم ص 497 زكريا هاشم.
10 ـ المرجع في الحضارة العربية الإسلامية ص 308 د. الكروي، ود. شرف الدين.
11 ـ الإسلام والعرب ص 248 روم لاندو.
12 ـ صور ومشاهد من الحضارة الإسلامية ص 301 عبد القادر الخلادي.
13 ـ الأندلس الذاهبة ص 482 الوزير ضيا باشا .
14 ـ حضارة الموحدين ص 76 محمد المنوني .
15 ـ الإسلام والعرب ص 274 روم لاندو.
16 ـ صور ومشاهد من الحضارة الإسلامية ص 322 عبد القادر الخلادي.
17 ـ خطط المقريزي ج 1 ص 26 المقريزي.
18 ـ معالم الحضارة العربية في القرن الثالث الهجري ص 482 أحمد عبد الباقي.
19 ـ إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد ص 194 ابن الأكفاني