لاستيطان الريفي في العراق والوطن العربي
أخذ الإنسان منذ إن وجد على سطح الأرض يحث الخطى في محاولة للحصول على مكان يأوى إليه , ويدافع خلاله عن نفسه. وقد مر ردح من الزمن قبل ان يغادر كهوفه ومغاوره, ليبني له مسكنا يستقر فيه .
ومن المعروف إن المجتمعات الإنسانية قامت أساسا على القرى والتجمعات السكنية الصغيرة, والتي اخذ يزداد حجم سكانها مع حاجة الإنسان للأمن والحماية والاستقرار والعمل المشترك, ففي مصر والعراق وفلسطين وسوريا كانت أوائل التجمعات السكانية قرى ريفية تسكنها العشائر البدائية التي تعيش على الزراعة البسيطة في وديان الأنهار
ويظهر إن المجتمعات البدائية التي هي الجزء الأصيل في المجتمعات المتحضرة من أعظم المجتمعات حضارة آنئذ وتمثل وديان الأنهار الرئيسية أكثر المراضع حظا في نشوء وتطور مثل تلك المجتمعات وما تزال مثل هذه المواضع تعكس حتى اليوم آثار تلك البيئات, كوادي الرافدين ووادي النيل. وقد كان الأخير ينبسط آنذاك على نطاق واسع جنوب بحر الغزال, ويرى بعضهم إن عددا من القرى القديمة جدا قد أقيمت على روابي وسط المستنقعات في مصر, أو على أكتافها, ثم تعرضت لظروف أخرى أدت إلى اختفائها. فثمة مستوطنات اندثرت دون إن نجد اليوم لها أثرا, بينما ما يزال لبعضها الأخر , آثار ماثلة للعيان.
وفي العراق وسوريا وفلسطين, وفي الجزيرة العربية دلت الأثريات إلى أنها تضم الخيوط الأخرى لفجر الاستقرار البشري والحضارة الإنسانية .
ففي العراق, تم الكشف عن أدوات تعود إلى العصر الحجري القديم في عدة مواقع من كردستان العراق, منها كهوف ((شانيدر)) و ((زرزي)) و ((كيوانان)) كما عثر على آثار الإنسان يعود إلى العصر الذي سبق ظهور الإنسان الحديث. وفي ((ج هرمو)) تم الكشف عن أقدم القرى الزراعية وقد برزت معرفة الإنسان وقتئذ بالبيوت الطينية, كما استعمل الخشب والقصب في البناء إضافة إلى سعف النخيل
ومن اجل الاستفادة من خصوبة التربة ووفرة المياه ملائمة المناخ ظهر الإنسان في المساحات الواسعة من السهل الرسوبي في العراق قادما من منحدرات وسفوح المناطق الشمالية
وفي سوريا, وجدت اقدم مستوطنه على ضفة الفرات القريبة من شرق مدينة حلب, تعود الى بدايات الالف التاسعة ق.م. وفي اريحا بفلسطين اظهرت التنقيبات عن اقدم مستوطنة ترجع الى الالف السابعة ق. م.
ويرى ((تويني)) إن الوطن العربي يستمد اهميتة التاريخية من ظهور الزراعة فيه لأول مرة في التاريخ الإنساني. وإذا كان العراق هو الموطن الأول للزراعة, فإن شبه الجزيرة العربية هي مهد الزراعة الاروائية منذ الفترات الجليدية
وقد خص العراقيون القدماء, الرافدين بالتقديس, وافردوا الفرات بتقديس اكبر, فهو اقل عنفا وتقلبا في فيضانه من نهر دجلة فلا غروان تتركز على ضفافه المستوطنات القديمة, كما تحكمت خصائص النهرين الطبيعية بتاريخ وتوزيع المستوطنات وتركيزها بالدرجة الأولى على جانبي الفرات دون دجلة, ولا سيما في مراحل الاستيطان الأولى للسهل الرسوبي.
ويلاحظ من خلال استعراض مسيرة الاستيطان الريفي في العراق أنها تميزت وخاصة من خلال العصر الحديث, بضعف الروابط والأحلاف العشائرية, ومن ثم فقد ساعد ذلك على الاستيطان التدريجي , وظهور مستوطنات جديدة وتوسيع أو تطوير المستوطنات القديمة.
وإذا تابعنا مسيرة الاستيطان الريفي خلال بدايات هذا القرن, نلاحظ انتشار القبائل في الوسط والجنوب, إلى جانب نسبة ليست قليلة من البدو يجوبون بوادي القطر وكذلك الرعاة في كردستان العراق.
ولا شك في إن انتقال من حياة الترحل إلى حياة الاستقرار , ليس جديدا, وان الفترات التي كانت فيها القبائل البدوية هي المسيطرة, تلتها فترات اتسع خلالها حجم السكان المستقرين, لا سيما بعد ظهور الحكومات المركزية القوية وتعاظم عوامل الاستقرار
وكان لتثبيت الحدود العراقية مع الأقطار المجاورة خلال العقد الثاني من هذا القرن دور مهم في الحد من حركة البدو والرعاة في البلاد, الأمر الذي اضطرهم إلى التقليل من عدد حيواناتهم بعد إن حددت المراعي واضطر عدد كبير منهم إلى البحث عن وسائل أخرى للمعيشة.وكان لاكتشاف النفط والتوسع في استخراجه أثر في استقطاب البدو والعمل في شركاته
من جهة أخرى, فأن البيئة الطبيعية في كردستان العراق شجعت السكان على الاستقرار, وكان لتوفير الأرض والمياه إن يسرا تحول الرعاة إلى الزراعة إضافة إلى التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كان لها تأثيرها في عمليات الاستقرار. وقد برز مثل هذا التحول نحو الاستقرار بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى.
ويبدو إن التطورات التي رافقت قيام الحكم الوطني في العراق سواء من خلال قوانين تسوية الأرض أو قوانين استثمار الأراضي الزراعية إلى جانب تطور وسائل النقل وظهور النفط دورا في المساعدة على قيام مشاريع توطين واسعة للسكان من بينها مشروعات دجيله اللطيفية والزبيدية, كما إن ظهور قوانين الإصلاح الزراعي بعد عام 1958 أدى إلى قيام مستوطنات جديدة ونمط جديد من التجمعات السكنية في الأرياف .
لقد تميزت فترة الخمسينات بتركيز حضري على حساب سكان الأرياف لا سيما بعد الارتفاع في المستوى ألمعاشي واعتماد التصنيع منهجا واقتصار عمليات توطينية في المدن, بحيث بلغت نسبة نمو سكان المراكز الحضرية, أكثر من 12% سنويا خلال الفترة بين عامي (1947 – 1977) مقابل 1% فقط بين سكان الأرياف. وقد عكست هذه الظاهرة آثارها على متغيرات أخرى تتمثل في عدد وحجم المستوطنات الريفية ومن ثم نمط توزيعها وانتشارها. فثمة مستوطنات جديدة ظهرت واختفت غيرها من المستوطنات وفيما زاد حجم سكان عدد منها, صغر حجم عدد آخر .. فقيام مشروع إروائي أو شق قناة وظهور ثروة ما أو قيام طرق للنقل والتخطيط لمجمعات سكنية وسياسة الدول.. من شأنها قيام مراكز جديدة أو تطوير القديم منها. وقد يتسبب في اختفاء أو ضمور غيرها من المستوطنات.
ويمكن اعتبار فكرة السبعينات فاصلة بين مرحلتين تميزت المرحلة التي قبلها بزيادة في عدد القرى بينما اتسمت المرحلة التالية بانخفاض في عددها. ولعل سبب ذلك يعزى إلى :-
• اهتمام الدولة بإسكان العشائر والقبائل الرحالة من خلال قوانين التسوية كان من شأنه المساهمة في ظهور أو توسع القرى والتجمعات السكنية الريفية .
• ظهور النفط, مما خلق فرضا متزايدة شجعت البدو والرعاة على الاستفادة منها والتحول نحو الاستقرار.
• استقرار الأوضاع الإدارية وامتداد نفوذ السلطة بشكل فعال أدى إلى الحد من حركة البدو والرعاة, الأمر الذي اضطرهم إلى الاستقرار ومزاولة الزراعة .
• تحول عدد من القرى إلى مراكز إدارية, وما تسببه أحيانا من ((اسر)) للقرى المجاورة أو القريبة, ساهم في انخفاض عدد وحجم المستوطنات الريفية .
• الهجرة الريفية إلى المراكز الحضرية, كان لها دور أساس في امتصاص عدد كبير من سكان المناطق الريفية, وانخفاض في عدد وحجم سكان القرى.
• سياسة تجمع القرى, وقيام التجمعات الفلاحية, عملت على تركيز المستوطنات صغيرة الحجم في وحدات كبيرة يسهل تنميتها وتطورها
سكان الأرياف :
على الرغم من التوجه الجاد في تجميع القرى والمراكز السكنية الريفية فأن المراكز ((صغيرة الحجم)) دون (500 نسمة), ما تزال تمثل أكثر من نصف مجموعها الكلي, فيما لا تمثل القرى الألفية(*) سوى 16% فقط من مجموع المستوطنات الريفية. وفي حين تضم الأولى 16% من سكان الأرياف تضم القرى الألفية أكثر من نصف مجموع السكان. وهذا يعني إن القرى الوسطية (500- 1000) نسمة , تمثل نحو ثلث المستوطنات الريفية في العراق ونحو ذلك من سكانها.
وفي مصر, حيث تسود الزراعة الاروائية , فأن كثافة السكان عالية بالنسبة للرقعة الزراعية المحدودة. وقد تطورت القرى والتجمعات الزراعية فيها وزادت إحجام سكانها, وتقاربت المسافات بينها. فمن بين القرى في مصر, ما يزيد حجم سكانها, على (300) إلف نسمة, مثل قرية ((سرسي الليان )) في محافظة المنوفية بوسط الدلتا. فيما يعتبر الرقم (5) آلاف نسمة رقما متواضعا لحجم القرى
من جهة أخرى, فان معدل حجم القرية في العراق لا يزيد على ((290)) نسمة, في المحافظات الوسطى بينما يبلغ ((240)) نسمة في المحافظات الجنوبية ونحو (200) نسمة فقط في المحافظات الشمالية .
وكما تختلف المستوطنات الريفية في الوطن العربي في مراتبها الحجمية تختلف أيضا في صور توزيعها وانتشارها. فمن القرى ما تتخذ إشكالا هندسية منتظمة ومنها ما تتبعثر بغير انتظام . وبينما يتخذ بعضها شكل تجمعات مركزية يتوزع بعض آخر منه على امتداد الطرق والأنهار مشكلة نمطا خطيا, أو شريطيا متميزا.
ومن الممكن, وبوضوح الكشف عن العلاقة بين نمط انتشار وتوزيع المستوطنات الريفية وعوامل توقيعها. فالاختلاف في البيئة الطبيعية من سطح ومناخ ونبات ومياه. من شأنه إن يؤدي إلى خلق قيم مكانية متفاوتة, يتولى الإنسان مهمة اختيار الأنسب منها لغرض استيطانه ومزاولة نشاطه الاقتصادي.
ويتخذ الاستيطان الريفي في مناطق المرتفعات والجبال نمط التوزيع المنتشر. وقد ساعد على توزيع القطع الزراعية وتفرقها بمساحات صغيرة نسبيا, بينما تكون متصلة في السهول والأراضي المنبسطة. لذلك فأن القرى تصل إلى ذروتها في التكتل حيث الجهات السهلية, لا سيما في وديان الأنهار في مصر والعراق على امتداد شريط حول نهر النيل ووادي الرافدين وكذلك في وديان انهار الوطن العربي الأخرى, لا سيما في سوريا والأردن وفي السودان.
وبينما تتبعثر القرى والتجمعات السكنية في مناطق الهضاب والأراضي الجافة وشبه الجافة لعجزها عن توفير المياه فأن مناطق الاهوار الدائمية تكاد تخلو من القرى أو أنها تتوزع بشكل خفيف, ويمكن ملاحظة ذلك في المستنقعات واهوار العراق وشطوط المغرب العربي